خصائص رحمته~ صلى الله عليه و سلم : أو عالمية الرحمةكذلك نستفيد من قول الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107 ] ، أن رحمة النبي رحمة شاملة وعامة وعالمية، وليست عنصرية تقوم على الأعراق أو الألوان أو المذاهب .. بل رحمة لكل البشر، رحمة عامة ومجردة للعالمين جميعاً، ليست رحمة للعرب دون العجم أو للمسلمين دون غيرهم، أو للشرق دون الغرب .. بل هي رحمة للعالمين..
وفي ذلك تقول لورافيشيا فاغليري :"إن الآية القرآنية التي تشير إلى عالمية الإسلام بوصفه الدين الذي أنزله الله على نبيه ~ صلى الله عليه و سلم ~ (رحمة للعالمين)، هي نداء مباشر للعالم كله. وهذا دليل ساطع على أن محمدًا ~ صلى الله عليه و سلم ~ شعر في يقين كلّي أن رسالته مقدر لها أن تعدو حدود الأمة العربية وأن عليه أن يبلغ (الكلمة) الجديدة إلى شعوب تنتسب إلى أجناس مختلفة، وتتكلم لغات مختلفة" [1] .
وعن أبي موسى : أنه سمع النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ يقول: "لن تؤمنوا حتى تراحموا !".
قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة..رحمة العامة!" [2] ..
فهي الرحمة بالعامة، أي بعامة البشر، ويجعل النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ ذلك من شروط الإيمان، فلا يعد الرجل مؤمنًا حتى يرحم الناس بصفة عامة .
كما في حديث أنس بن مالك ، أن رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ قال: "والذي نفسي بيده ، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم" ، قالوا : يا رسول الله ، كلنا يرحم ، قال :" ليس برحمة أحدكم صاحبه .. يرحم الناس كافة " [3] .
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قال :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ :" الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ " [4] ..
فالرحمة بأهل الأرض تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فالمؤمن يرحمه ويتقى الله فيه، ويعلم أنه مسؤول أمام الله عن هذه العجماوات [5] .
كما أن الرحمة بالخلق وأهل الأرض شرطٌ لنيل رحمة الخالق، بحسب عبارة الحديث: " ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السّماءِ".
ومن ثم كانت رحمته إنسانية عامة، شملت المسلم وغير المسلم، والمؤمن والمنافق، والعربي وغير العربي، والشرقي وغير الشرقي ، والأفريقي والأوربي، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، والإنسان وغير الإنسان، والحيوان والطير والجماد. فهو يعتبر البشرية جميعها أسرة واحدة، تنتمي إلى رب واحد وإلى أب واحد وإلى أرض واحدة ..كما قال النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ :
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى" [6] .
ومن ثم كان رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~رحمة لكل الأمم ، ولأمته خاصة ، مهتمًا بأمرها ، يخشى عليها من عذاب الله يوم القيامة، وقد كانت مشاعره جياشة في هذه المسألة ، فذات مرة قرأ قول الله تعالى في القرآن على لسان عيسى : ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118] .
ففاض ينبوع الرحمة، واهتز قلب النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ يناجي ربه في خشوع : " اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى..!!".. وسرعان ما نزل الأمين جبريل مهدئًا من فزع محمد ~ صلى الله عليه و سلم ~ على أمته، ومبلغًا قائًلا: إن الله يقول لك : " إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ" [7] .
وكان رحمة كذلك لغير المسلمين، بل وأشر الخلق ، فكان رَسُولُ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ يمارس هذه الرحمة مع شرار الناس ، حتى يظن الفاجر أنه بخير!
وتأمل قول عمرو بن العاص- رضي الله عنه- :
"كان رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك ، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليَّ حتى ظننت أني خير " [8] .
واستفاد غير المسلمين من رحمة النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ ؛ ولأن الله تعالى كان يهلك من قبل الأمم الكافرة بسبب كفرها وعصيانها للأنبياء هلاكاً جماعياًّ، بينما رفع الله تعالى بعد بعثة محمد هذا الهلاك الجماعي، فاستفاد الناس من خلاصهم من مثل هذا العذاب، فكان ذلك نعمة دنيوية بالنسبة للكفار. يخاطب الله تعالى نبيه في هذا الخصوص فيقول
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) [الأنفال: 33 ]
وتأمل قدر النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ ومنزلته عند الله: أي طالما أنت تعيش بينهم فلن يعذبهم الله. طالما أن ذكرك موجود، وتلهج به الألسنة، وطالما أن الناس يتبعون طريقك فلن يعذبهم الله ولن يهلكهم [9] .
وكان رحمة للمنافقين أيضًا. فبسبب هذه الرحمة الواسعة لم يرَ المنافقون العذاب في الحياة الدنيا. فقد حضروا إلى المسجد واختلطوا بالمسلمين واستفادوا من كل الحقوق التي تمتع بها المسلمون. ولم يقم رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ بفضحهم وإفشاء أسرار نفاقهم أبداً مع أنه كان يعرف دخائل نفوسهم ونفاقهم، حتى إنه أخبر حُذيفة رضي الله عنه بذلك [10] لذا، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراقب حُذيفة، فإن رآه لا يصلي على جنازة لم يصلها هو كذلك [11]، دون إحداث ضجة أو تشهير بالمنافق الميت .
ومع ذلك فلم يهتك الإسلام سرهم ، فبقوا بين المؤمنين، وانقلب كفرهم المطلق إلى ريبة وشك على الأقل ، فلم يحرموا من لذائذ الدنيا؛ لأن الإنسان الذي يعتقد أنه سيفنى ويذهب إلى العدم لا يمكن أن يهنأ في عيشه، ولكن إن انقلب كفره إلى شك وشبهة فإنه يقول في نفسه: "ربما توجد هناك حياة أخري"، عندئذ لن تكفر حياته تمام الاكفرار. ومن هذا المنطلق كان رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ رحمة لهم بهذا المعنى [12] .
وكما قال الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه :
إذا رأيت معركة بين حق وحق فلا توجد لأن الحق واحد
و لا توجد معركة بين حق وباطل لأن الباطل دائما زهوق .